الثلاثاء، 20 يناير 2009

الجدار الماثل بين المعلم والمتعلم ... آيل للسقوط

حادثة حرق طالب لسيارة معلمه، وتعرض بعض المعلمين إلى الإهانة من طرف الطلبة أحيانا، وتعنيفا وضربا أحيانا أخرى، ممارسات لم نكن نسمع بها سابقا، حوادث وصلت إلى حد المطالبة بإقرار قانون لحماية المعلمين، تضعنا أمام علامات استفهام عدة. والحال أن اسم المعلم ووظيفته التصقا في ثقافتنا العربية وقد تكون غير العربية كذلك بهالة من القدسية والاحترام، حتى إن أمير الشعراء احمد شوقي جعله في بيت شعري له كتب له الخلود يكاد يحتل مرتبة "الرسل" لكونه مكلفا أخلاقيا برسالة تربية جيل بكامله، "قف للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا".
فهل مازل هذا البيت فعلا يحتفظ بمعناه إلى اليوم؟
وهل فعلا يمكننا أن نجزم بأن معلم اليوم جدير بهذه الرسالة وهذا اللقب القدسي "رسول"؟
"الصوت" من خلال لقاء مجموعة من الطلبة والأستاذة وهيكل تربوي تفتح التحقيق حول أسباب هذا التغير الحاصل في ملامح المعلم واهتزاز صورة بعضهم لدى الطالب والأسرة.
ارتبطت بالصراخ
"طيب، يعلّم عدل، ويحفظنا عدل، وما يكون عصبي" تلك ابسط الصفات التي تتمناها عينة من أطفال المدارس الابتدائية. على بساطة الكلمات فإنها تحمل الكثير من الصفات التي قد يفتقدها الطلبة في معلميهم، صفات هي أشبه بالحلم والأماني، خليط من المعايير الاخلاقية والعلمية. والملاحظ من خلال مجموعة من الاستجوابات، ان الطلبة وهم في التاسعة من عمرهم فما فوق يركزون على العنصر الاخلاقي اكثر من العنصر العلمي، وهذا مؤشر قد ينبئ بمدى غياب هذه الصفات داخل بعض المدارس الكويتية.
وهي صفات بالاساس استطاع الاطفال ان يجعلوها مقياسا للمعلم المثال، الذي كدنا لا نجد له وجودا في الساحة التعليمية، فصورة المعلم حسب رأي بعضهم ارتبطت "بالصراخ، وهو شرير لانه حين يخطئ طالب فإنه يعاقب الصف باكمله، ويغضب كثيرا وبسرعة "فأتضايق" كما يخبرنا محمد ثامر عمار من الصف الرابع.
هذه هي اهم صفات بعض المعلمين، بين الموجود والمفقود يتوه بعض الطلبة تيها الى درجة يجعلهم لا يفكرون مطلقا في ان يكونوا معلمين. او ان تتمنى بعض العائلات مستقبلا لابنهم على شاكلة المعلم.
هنا يتذكر ابو امين كم تمنى ان يصبح يوما معلما ينشر العلم والاخلاق الحميدة بين صفوف الطلبة، ويمشي الهوينى رافعا رأسه، لانه يحمل لواء جيل بكامله، يتذكر ايضا كم كان للمعلم من هيبة ووقار في المجتمع، هيبة يفرضها بعلمه ورصانته وجديته، ولعل الطريف في كلام ابي امين، انه يجعل البنية الجسدية عاملا من عوامل هيبة المعلم ووقاره، حيث يقول "المعلم قبل كان مفتول العضلات طويلا ضخما، يفرض احترامه بجسده، لكننا اليوم نجد معلمين ومعلمات صغارا في السن والحجم، فمن الطبيعي الا يحترمهم الطلبة فبعضهم اطول منهم قامة".
الدروس الخصوصية تهدم الصورة
"الطالب يعي ان معلمه يجري وراء المادة بانخراطه في الدروس الخصوصية، ويعلم انه وعائلته يقدمان له راتبا أي ان لهم الفضل عليه، وعندما أصبح المعلم يدخل إلى بيوت الطلبة ويسمح لنفسه أن يتلقى الهدايا فلا يعلم انه يسعى بالمقابل إلى كسر الجدار الذي بني منذ الأزل بينه وبين الطالب، وهو بالأساس جدار الاحترام والسقف الذي تدور في فلكه الهالة القدسية والرهبة منه". هذا التفسير كثيرا ما سمعناه خلال مقابلاتنا لمجموعة من المعلمين والاولياء، والملاحظ ان الاتفاق بين الجهتين قد يدل على ان الخلل قد طفح بطريقة واضحة للعيان، ولئن كانت هذه الملاحظة المتفق عليها تشير إلى كسر الجدار الماثل بين المعلم والمتعلم، فانها لا تعتبر دعوة لبناء جدار من الاسمنت المسلح بين الطرفين، يكون فيها المعلم في برجه العاجي بعيدا عن عالم التلميذ.
وانما هي لا تعدو ان تكون دعوة من قبل بعض اولياء الامور والمعلمين الى موازنة الامور وايجاد حل جذري لتلك المشاهد المتكررة داخل بعض المدارس الكويتية.
فرض الاحترام
تأخر دور المعلم باعتباره لم يعد المصدر الوحيد للمعرفة، ذلك ان غياب مصادر المعرفة سابقا واقتصارها عند المعلم كانت السبب الرئيس في فرض الاحترام، إلى درجة انه ارتبط بمقولة "من علمني حرفا صرت له عبدا" على خلاف اليوم، حيث يمكن للطالب ان يحصل على المعلومات من أي مكان. كما يكاد يذهب الى المدرسة وهو جاهز تقريبا بفعل ما تلعبه الأسرة المتعلمة ودور الحضانة ورياض الأطفال، إضافة إلى برامج التلفزة وغيرها من الاختراعات التي وفرت اقصى حد ممكن من المعرفة، من هذا المنطلق تربط المعلمة نجوى الروح الهمامي قيمة المعلم بمدى تقديمه المعلومة، مستنتجة ان بارتفاع عدد مصادر المعرفة ينخفض دور المعلم. كما تلاحظ التطور العلمي والحداثة وما افرزته من تغيير للمفاهيم والقيم انسحبت بدرجة كبيرة على قيمة المعلم الذي في احيان كثيرة لا يواكب هذه التغيرات فيغدو في مواقف محرجة امام اسئلة يعجز على الاجابة عنها. من هنا تستنتج ان تغيير القيم والمفاهيم بفعل مبدأ التطور انسحب على قيمة المعلم، باعتبار ظهور قيم اجتماعية جديدة من بينها تغير نظرة المجتمع والاسرة للمعلم.
"لك اللحم ولنا العظم؟"
"باشر أوريك فيه" هذه الجملة كثيرا ما تترد على ألسنة الاولياء يتوعدون بها المعلمين ويلفظونها صراحة امام ابنائهم في محاولة منهم لاسكاتهم حين يشتكون من المدرس. هذه الجملة نسمعها كثيرا من افواه المعلمين انفسهم وبعض الاولياء اليوم. والحال اننا ما كنا نسمع بها منذ سنوات غير بعيدة، حيث كان المعلم يلعب دور المربي بالدرجة الاولى، وحيث كذلك كان الابن لا يجرؤ على ان يشتكي امام والديه مدرسه لمعرفته مسبقا ان شكواه لن تلقى القبول وربما تنقلب ضده، وذلك لتعامل الاهل مع المعلم قديما بحسن النية، كان ينظر اليه على اساس انه لا يخطئ ابدا في حق تلامذته، وان عاقبهم فلأنهم حقا مخطئون، الى درجة ان بعض العائلات في الكويت تقول للمعلم "لك اللحم ولنا العظم" او في دول أخرى، "حاسبني بجلده".
هذه المكانة التي حظي بها المدرس قديما، ترتبط بالأساس بإحساس الوالدين بانه يقاسمهما الشعور بالخوف على مصلحة ابنهما. هذا الشعور اليوم لا نكاد نجده بسهولة، ما يجعل العائلة لا ترضى ان يتولى المعلم مهمة التربية، وبالتالي العقاب الذي يعتبر في ادبيات التربية جزءا منها.
كما انه اليوم ومن خلال تقلص احترام بعض الاولياء للمعلم، وتقلص ثقتهم في ادائه التربوي والعلمي، وتهميشهم لدوره امام الابناء، ترى المعلمة نجوى الروح أن المعلم أصبح مفرغا من مسؤولية التربية خصوصا مع تمسك بعض العائلات بضرورة الفصل بين التربية والتعليم. معللين هذا التمسك باختلاف ثقافة المعلم الوافد باعتباره يمثل الأغلبية في المهنة.
كما نلاحظ من خلال هذه التصريحات أن منظومة العقاب انقلبت ليتحول المعلم من باث للعقاب إلى متقبل له، ما يجعل صورة المعلم تهتز بمركزيتها إلى غير رجعة داخل المنظومة التربوية.
الهرم التربوي
من منظور مغاير، تربط الأستاذة سوزان بوشناق ما يحدث للهرم التربوي من شروخ بالتغير الحاصل على طالب اليوم مقارنة بنظيره امس، بدافع التغيير للمجتمع بفعل العولمة والتقدم العلمي، وباعتبار ان الطالب جزء من هذا المجتمع فان التغيير طاله فاصبح اكثر تحررا لا يحبذ الضوابط، ولكون المعلم يمثل بالنسبة إليه احد الضوابط صار مصدر كره واستفزاز. كما تركز الاستاذة على تطور ثقافة حقوق الانسان اليوم وانتشارها ووعي معظم الفئات العمرية بها، جعل الطالب يعي ضرورة احترام المعلم له، ويعتبر كل عقاب او ملاحظة انتهاكا لحقوقه، حتى ان البعض منهم اصبح يتقوّى على معلمه بفعل ما يجده من نصوص تجرّم كل تعد على شخصه، هذه الفكرة تؤكدها تصريحات بعض الامهات. ام نضال واحدة منهن، لا ترضى لابنتها ان تتعرض الى ملاحظات من معلمها خوفا عليها من اضطرابات نفسية قد تعيق مردودها الدراسي، ولرغبتها في التفرد بتربية ابنتها "المدللة".
وقد تؤكد بعض الاسر على حق الطفل في التعبير عن رأيه، وإن كان تعبيره ضربا من فوضى داخل القسم او اخلالا بالادب. كما تعتبر ضرب الطفل بكل مستوياته مسا بشخص الطالب، وهنا الملاحظة تفرض نفسها، وقد تجعل المقارنة بين الاسرة اليوم وامس امرا ضروريا.
حيث نلاحظ اليوم ان المعرفة بحقوق الانسان والمواثيق الدولية دخلت في ثقافتنا اليومية، حتى كاد البعض منا يستعملها بشكل ملحوظ قد يكون في احيان كثيرة بعيدا عن العقلانية.
غياب الاسوة الحقيقية
تستغرب ام طلال كيف نحاكم جيل اليوم ونحاسبه على استهتاره بمعلمه في الوقت الذي تغيرت فيه الرموز والاسوة! المقارنة بين المعلم امس، حين كان رمزا يقتدى به، وبين الرموز الحالية التي يغدو ويمسي عليها الاطفال اليوم، فهي تستنكر قائلة "كيف لنا ان نحاسب جيلا يتربى على نور ومهند، ورونالدينو، وهيفاء وهبي".
معتبرة ان حضور امثلة جديدة من الاسوة تنسحب على صورة المعلم الذي اصبح حسب اعتقادها يدان اكثر مما يتحمل، اصبح الطالب اليوم يذهب الى المدرسة وذهنه مسكون بانموذج بشري، هو خليط من وسامة مهند وقوة هاريبورتر، وفتنة هيفاء، إلى جانب ما يسمعه يوميا من انتقادات توجه الى الانموذج "المهتز وتحميله مسؤولية اطفال تربيهم الخادمة والانترنت".
كانت ملاحظات ام طلال رغم ما تبدي من تبرئة للمعلم، الا انها لا تعفي عنه مسؤولية ما يجتاحه يوميا من تجاوزات يمارسها وتُمارس عليه.
اليوم ما نشاهده ونسمعه من تغير على مستوى صورة المعلم لدى الطالب والاسرة والمجتمع قد ينذر بتغير فعلي على المستوى القيمي من جهة، و المفاهيم من جهة اخرى، تغيرا يعبر عن ضرورة مراجعة لما يجري غصبا على المجتمع الكويتي، بفعل الانتقال الفجائي الحاصل فيه، ويستوجب قراءة متانية تستهدف كل الاطراف.