الاثنين، 19 نوفمبر 2007

حوار مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم

احتياطي الكذب في الحياة العربية أكبر من احتياطي النفط في صحرائها

سميح القاسم، كما عرفته، شخصية مرحة تعلوها ابتسامة صادقة بعيدة عن التصنّع، ابتسامته فلسفة ينثرها أمام مستمعيه طمأنينة وحبّا في التفاؤل وبعثا للأمل في النفوس، هو إنسانيّ النزعة يُعلن رفضه الدائم للأصفاد والقيود جغرافية كانت أو عرقية أو دينية أو مذهبية... بقول الشعر يحاول منذ سنين تجاوز تلك الحدود...
في زيارته الأخيرة إلى تونس، أراد أن يشرّك محبّي الشعر والكلمة الهموم المتوالدة للإنسان العربي هنا وهناك وجيلا بعد جيل... سميح القاسم شاعر متمسّك بانتمائه العربي دون نعرة قوميّة، جاء ليوجّه صرخة إلى العالم في وجه العدوان. التقتينا، لا الشاعر فحسب وإنّما أيضا المثقف العربي الملتصق بشعبه وبقضاياه، وإليكم تفاصيل هذا الحديث الاستثنائي.


* في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان وفلسطين، يأتي سميح القاسم مبتسما، لم ينجح هذا العدوان في اغتيال ابتسامته الدائمة رغم إطباقها على أرواح عشرات الأطفال الأبرياء، ما سرّ في ذلك؟

السؤال طبيعي. وأرجو أن تكون إجابتي كذلك طبيعية. إن الشاعر الإسباني "لوركا" الذي اغتاله الفاشيون القتلة سألوه قبل رحيله بفترة وجيزة: "لماذا تقاتل وتكتب وتحارب؟" أجاب ببساطة: "أنا أدافع عن ابتسامتي" هذا التعبير الإنساني البسيط والعميق في نفس الوقت يختصر سيرة الصراع البشري من بدء المجتمعات الإنسانية إلى نهايتها.
في الحقيقة، أنا لا أدافع عن ابتسامتي، أنا أبتسم لأدافع عن دمعتي. الأمر سيّان عندي، إذ أني ألاحظ عبر وسائل الإعلام والفضائيات العربية حالة الانكسار والإحباط واليأس والانهيار الروحي لدى الإنسان العربي جرّاء ما يحدث على الأرض العربية في فلسطين أو لبنان والسودان والعراق وفي أماكن أخرى من هذا الوطن وهي حالات تثير الدمع لكن الاستسلام للدمع والانخراط في اليأس وصفته سابقا بأنه "رفاه باهظ التكاليف". أنا لا أستطيع أن أسدّد فاتورة اليأس وأعتقد أنّ أمتي لا تستطيع دفع ثمن اليأس لأنه باهظ جدّا ويعني النهاية. وأنا أؤمن بقوّة الحياة والإرادة والروح وجبروت الإنسان وشهوة الحضور الكامل في هذا الكون. لذلك تتحوّل حالتي الشعرية إلى حالة إنسانية كاملة.
واعذريني أنني أحسّ في هذه الأيام تحديدا كأنني مسؤول شخصيا عن مزاج أمّة ووجدانها، وليس فقط عن مزاجي الشخصي أو مزاج الشعب الفلسطيني أو اللبناني. لذلك أحمل هذا التكليف غير الرسمي وهو تكليف أعتبره ذاتيا وخاصا جدّا فتراني أتجوّل داخل العالم العربي وأقول للناس لم تموتوا بعد ولم نمُت بعدُ، وأن إمكانية الحياة متوفرة وأن المقاومة مطلوبة وضرورية وممكنة لأن الاستسلام يعني الموت. لذلك أرى في لقاءاتي بالجماهير العربية في تونس أو في أي بلد عربي آخر وأنا أتجوّل في الآونة الأخيرة بشكل مركّز في الوطن العربي بحيث أنّي أؤدّي رسالة شعرية وإنسانية ولا أقرّ أيّة نظرية من النظريات التافهة التي تتحدث عن القطيعة بين الشعر والسياسة أو الفنّ والواقع. هذه النظريات ساقطة وتافهة وغير جديرة بالتوقف عندها ومن هنا أعود دائما إلى منزلي في الجليل على سفح جبل حيدر ببلدة الراما قريتي بإحساس أنني على الأقل قدّمت أضعف الإيمان بأنني لا أعيش عبثا وأنني أهدر الوقت ولا أضيع طاقاتي وزمني هباء. أجد في هذا شيئا من العزاء وتجد قصيدتي شيئا من العزاء هي أيضا لأنّها تحسّ بأنها تصل إلى جماهير عريقة رغم كونها بالأساس قصيدة ذاتية فردية لكنها تصل.
أعتقد أنّ هذا التلاحم بين قصيدتي والجمهور هو الخندق القوي والأخير الذي تدافع به روح الأمة عن وجودها وحلمها وطموحها ومستقبلها.
عزيزتي أنا ابتسم للإنسان العربي، أما غضبي فهو بلا حدود. فأنا إنسان غاضب جدا في مسيرتي الشعرية منذ البداية، حتى أن بعض النقاد مثل رجاء النقاش وغيره أطلقوا عليّ لقب "شاعر الغضب الثوري" و"شاعر العروبة أو المقاومة أو الإنسانية"... كل هذه التعابير تؤشّر إلى شيء واحد وهو هذا الالتحام العفوي بيني وبين أمّتي.

* أمازلت تفضّل أو بعبارة أخرى هل مازال يستهويك لقب شاعر المقاومة؟

لا يعنيني أيّ لقب. لكن أفهم من سؤالك أنك تحيلينني أو تسقطين عليّ مقولات من شارع الثقافة والصحافة. هنا شيء خطير يقول بأنّ ليس هناك مكان للمقاومة وأدب المقاومة وأن المسألة انتهت وأنّ الأمن مستتبّ، وأنه انتهى دور شعر المقاومة إلى آخر الكلام...
أولا، أنا لم أخطط لضياع فلسطين حتى أصبح لاحقا شاعر مقاومة. لو لم تضع فلسطين لكنت ربما شاعر الحب الأول في العالم، وشاعر الغزل الأول عند العرب. فالمسألة ليست خيارا، ذلك أنّي لم أٌسأل إن كنت أريد أن أصبح شاعر مقاومة أو حبّ أو طبيعة أو نباتات بريّة، لاسيّما أني ولدت في معركة فانخرطتّ فيها وعبّرت عنها بما يليق بي وبها وبالشعر أيضا. لذلك هذا على مستوى القيل والقال في شارع الصحافة وعلى أرصفة "الكفتريات" في بعض المدن الملوّثة بدخان السجائر والسيارات والنظريات التافهة. هذا الكلام في الحقيقة لا يعني لي شيئا. وهو نوع من التخبّط واليأس والضياع الذي يعيشه ربما محبّو الشعر والأدب. ربما يكون نوعا من الضياع لا يهمني ولا يعني لي شيئا لأني لست عضوا في حزب سياسي أو شعري أو حركة علنية أو سريّة. فأنا شاعر فرد تحملني قصيدتي وأحملها بما أشاء وبما أريد وبما تحلم به القصيدة وهذا كلّ ما في الأمر. وحين تتحرّر الأمة ويتحرّر الوطن العربي سيبقى ما هو شعر وسيزول ما ليس شعرا.
إذا كانت القصيدة للمتنبي في هجاء كافور الإخشيدي أو في رثاء أم سيف الدولة قد بقيت إلى اليوم فإنها بقيت بقيمتها الشعرية وليس بالموضوع الذي تناولته. إذن في النهاية، ستبقى القيمة الشعرية.

* رغم قصائدك الكثيرة عن فلسطين.. هل تعتقد أن لك قصائد مرجعية باقية في الذاكرة كقصائد المتنبي، كيف تفسّر ذلك؟

أعتقد أننا هنا نختلف ببساطة بما هو حاضر. لنأخذ مثلا قصيدة "سأقاوم" التي كتبتها في سنة 1965 وأعتقد أنها معروفة في العالم العربي أكثر من قصيدة أخرى للمتنبي.
هذا حكم مستعجل، لنترك بعض الوقت. فالقصيدة الجيّدة تبقى وكذلك القصيدة التي تبني نفسها على الموضوع. ويجب أن نشير إلى أنه ليس كل ما يكتب في فلسطين هو شعر جيّد. وليس كلّ ما يكتب في قضيّة عادلة هو شعر جيد. فمن المحتمل أن يكون هناك شعر رديء في قضية عادلة وهو كثير في فلسطين والعالم العربي والعالم بأكمله. لكن الشعر الجيّد سيبقى.

* إذن هل لك أن تُحدّد لنا مقاييس الشعر الجيّد، حسب رأيك؟

لا أحد يستطيع أن يُعرّف ما هو الشعر. لكن هناك مقاربات. حسب رأيي العمل الذي يحمل استثنائيّة فنيّة قائمة بذاتها واستثنائية إنسانية من خلال الموضوع الذي تعالجه يتحوّل الشعر إلى شعر جيّد. وبهذا المعنى سيبقى للأمة في المستقبل نماذج من الشعر العربي الحديث جميلة وقويّة وأصيلة ولن يكون المتنبي وحيدا على الساحة. ولا أستعمل الشعر الفلسطيني لأني لست إقليميا كما يعرف الجميع.

*أصدرت بيانا من سميح القاسم المواطن إلى سميح القاسم الشاعر أعلنت فيه أنك لن تعود إلى الشعر. ما الذي دفعك إلى إصدار هذا البيان؟ وما الذي جعلك تعدل عن تنفيذه؟

هذا صحيح، لقد وصلت في لحظة انكسار كبرى وانهيار سياسي وإيديولوجي إلى حالة قلت فيها لنفسي "لمن تحرق نفسك وهذا الوجود السياسي والقومي والدولي لا يستحقّ أن تحرق نفسك من أجله بهذا الشكل، فليذهب إلى الجحيم، إن كان يختاره في لحظة معينة؟".
لكن حتى هذه الحالة، شدّتني لاحقا إلى التعبير عنها، وحين نشرت قصيدة بعد هذا البيان بفترة، سألني عدد من الصحافيين "ماذا مع هذا البيان الذي أصدرته؟"، قلت ببساطة "عصمتي ليست بيدي، فهي بيد القصيدة التي أعادتني إلى بيت طاعتها".

*تعلن دائما أنّ لديك "مسؤولية بتكليف إلاهي للدفاع عن روح الأمة وحضارتها وتراثها وثقافتها وحداثتها أيضا"، ألا ترى في ذلك مغالاة أم تراه غرور شاعر أو إنسان؟

أبدًا، هذا كلام متواضع، أنا أعترف بمسؤولية وتكليف إلاهي. وهذا حقيقة. وتلمسين في أمسياتي الشعرية في تونس أو الرباط أو القاهرة أو دمشق أو عمان.. أحسّ بهذا التكليف الإلهي. ومن المؤسف أن أقول إن في الأمة العربية كثيرين من هم مستعدّون للاستشهاد بحزام ناسف، لكن لا أجد من هم مستعدون للاستشهاد بحزام ثقافي. مع الأسف لا يوجد عندنا المثقف الشهيد والمثقفون المهيؤون للشهادة. يوجد مرتزقون، وموظفون بالمعنى الروحي وليس بالمعنى الرسمي. يوجد عندنا طبالون للسلاطين وحجّاب وبوّابون في الثقافة. نحن في حجة إلى نموذج للمثقف الشهيد حتى على مستوى "جون بول سارتر" لا يوجد عندنا. وهو ليس ذلك المثقف بقامة ابن رشد. لذلك فإن هذا الوضع والقحط والسقوط يجبرني على توجيه ما يشبه الإهانة والاستفزاز لما يُسمّى بالساحة الثقافية في الشعر والموسيقى والرسم... لا يوجد حراك ثقافي عربي على مستوى المأساة العربية رغم كبر حجمها وهولها.
لذلك هذا الإحساس بالوحدة وبالعزلة ربما يكون هو الذي يدفعني إلى البوح بالتكليف الإلهي.

* كيف ترى علاقة المثقف العربي بالواقع بين الموجود والمنشود؟

لست منظّرا، ولا أدّعي ذلك. لكن ربما بحكم موقعي الجيو-سياسي لست في غمرة الساحة العربية الثقافية. أنا في وطني ومعتقلي وسجني وحصني وقلعتي منقطع جسديّا عن الحياة اليومية والحركة الآنية في الوطن العربي، لكنّي روحيّا هناك ومنخرط بلا رحمة في الوجع العربي والهم العربي والحلم العربي أيضا. أنا منخرط بالكامل والقطيعة شكلية وبرّانيّة وجغرافية لكن لا أستطيع أن أتخلّى عن التكليف الإلهي.

*هل ممكن أن تكون الكلمة وسيلة للحفاظ على الإرث الثقافي؟

الكلمة وحدها لا تكفي. فهي ليست مجرّد وعاء رغم أنها بشكل من الأشكال وعاء لمضامين معينة يجب إعطاءها المضامين المناسبة. الكلمة بمعنى أداة التعبير ينبغي أن تكون لها دور في توظيف الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالكلمة تستطيع أن تؤثّر وتُثوّر وتُغيّر. وهذا ما أقوله دائما. فالكلمة وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئا دون مضمون مرتبط بالاقتصاد والفكر والسياسة. أفكاري ليست قمصانا أغيره، حتى أتوصل إلى رؤية أو موقف أو رأي هذا يتطلب مني سنوات طويلة من التجربة لذلك مازلت عند هذا الرأي. وما تأتين به لا يمكن أن يُكلُف شاعر بحماية تراث أمة بالكلمة والقصيدة فهناك أطراف وشركاء آخرون.

* منذ فترة لم نعرف للقصيدة العربية شكلا جديدا، هل تؤمن بأن لكلّ جيل شكل للقصيدة يوافق قضاياه؟
الأشكال في الفن ليست قضية موضة. نحن نكتب في القصيدة العربية ومازالت صالحة. فهذه مسألة ثقافة وتعليم ومعرفة. أوعية التعبير وأشكاله لا تسير مع الموضة فهي تتكون عبر التجربة الإنسانية والتراكم المعرفي في مراحل طويلة جدّا. فالرسامون المعاصرون مثل "بيكاسو" رسم بالألوان نفسها التي رسم بها "قوقان" "ورافييل"... المهم أنّ هذه الأدوات التي هي نتاج ثقافة وتجربة وصناعة وخبرة طويلة جدا لم يستعملها بيكاسو كما استعملها غيره. فكل رسام يستعمل الألوان بطريقته فخلطة الألوان تظل نفسها غير أن المهم كيف يتعامل الرسام معها. هكذا أيضا في الشعر. الأشكال تتغيّر، إذ كنا في الشعر العمودي ثم ظهرت التفعيلة ثم ظهر ما يُسمى بقصيدة النثر. فأحدها لا يُلغي الآخر.
أنا كتبت بالعمودي والتفعيلة وقصيدة النثر أيضا ومازلت أحب كل هذه الأشكال مع إضافات في الشكل العام. مثلا في القصيدة العمودية، أعتقد أني أضفت شيئا جديدا أحيانا أكثر من صدر بيت للبيت الواحد. أو في البيت الواحد أكثر من عجز يعني هذه مسألة ظهرت عفويا ثم اكتشفت أنها مريحة ومفيدة وجدية فأسريت فيها. واعتبر أن هذه هي إضافتي الشخصية قد يستعملها شعراء آخرون وربما تصبح إضافة لشكل القصيد الكلاسيكي. وقد أضفت ما يُسمىّ بالسربية. وهي ما ُسمى سابقا بالمطولة الشعرية. وكانت تقوم على موضوع واحد ملحمي فيه إطالة مبنية على وحدة القصيدة. وقد بدأت هذا النوع من السربية منذ سنة 1965 في "سربيات أرم" حيث لا يتخللها وحدة الموضوع ولا وحدة الشكل وتقوم على تداعيات أشبه بحركة أسراب الطيور أثناء طيرانها. والسربية هي القصيدة المبنية على التداعيات وتعدد الأشكال والحالات النفسية في إطار عام مشترك.
في سنة 1965 نشرت أرم وهي أول سربية في حين أني ألاحظ في السنوات الأخيرة عدد كثير من الشعراء العرب يكتبون بهذا الشكل ولا يطلقون عليه اسم سربية هم أحرار في ذلك لكنه سربية تكتب بالشكل الذي أوجدته باجتهادي الشخصي والتلقائي. فالأشكال تتكون تلقائيا وعفويا دون دراسة مسبقة.
شكل السربية أصبح كما أرى شكلا رائجا في العشر العربي الحديث. وأعتقد أن تعدد الصدر والعجز في القصيدة العمودية قد يٌريح بعض الشعراء وقد يُصبح شكلا رائجا فلا أضع trade mark أو حقوق التأليف ولم أطالب أحدا بالتعويض على شكل السربية ولم أطالب كذلك أحدا بالتعويض عن تعددية الشكل والعجز.
ماذا تقول عن صراع الحضارات وعن الآخر؟
في الآونة الأخيرة يتكلم الجميع كثيرا عن صراع الحضارات والعلاقة بالآخر. وهو تعبير مترجم من لغات أخرى أجنبية أنقليزية وألمانية...
أولا، لا يوجد صراع حضارات، فهذا اعتبره افتراء وتزوير لما يحدث. يوجد في العالم صراع بين قوى النور والحبّ والتقدّم والعمران وقوى الظلام والهدم والتدمير. في القوى الأولى يوجد عرب ومسلمين وفرسيين وروس والمان ويهود ومسيحيين وأقباط... وفي القوى الثانية نجد نفس الشيء عناصر من كل الشعوب والأديان والحضارات.
إذ لا يوجد صراع حضارات. وإنما يوجد صراع بين حضارتين وهما حضارة التقدم وحضارة التخلّف. ففي الأولى موجود من جميع الجنسيات والقوميات والأديان والقهر والتخلف والكبت والحرمان...
لا يوجد صراع أديان، فهذا كذلك كذب وافتراء وتهرّب من مواجهة الحقيقة.
عندما نتحدّث أيضا عن الحوار مع الآخر عادة ما نكذب على أنفسنا، لأنه يوجد في داخل كل عربي أكثر من آخر.. مثل الآخر الإقليمي والمذهبي والديني والقبلي والجهوي... قبل كل شيء علينا أن نبحث عن السلام الذي في داخلنا، علينا أن نكفّ عن كره أي شخص لأنه فقط شيعي أو سنّي أو علوي أو مسيحي.. لنكُفّ قبل كل شيء عن التناقضات التي هي في أعماقنا عندما نُجري المصالحة مع الآخرين في أعماقنا نصبح مهيئين للمصالحة مع الآخر في الخارج لذلك لابد من ثورة ثقافية عربية ليست على طريقة "ماوسي طونغ" أو على طريقة الثورة الثقافية الصينية، بل لابد من ثورة ثقافية عربية مدروسة وبمشاركة كلّ قوى التقدم والكرامة الإنسانية والقومية والحرية.

الخميس، 23 أغسطس 2007

بعض ما يحدث في تونس

كانت الساعة تشير إلى الثامنة وعشر دقائق... امتطت ''أماني'' كعادتها المترو الخفيف ليوصلها إلى محطة الحافلات فتمتطي واحدة توصلها إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية حيث تدرس بالسنة الثالثة ، قسم أدب وحضارة أنقليزية. كانت الساعة تنبئ بتأخّر الطالبة عن الحصة الأولى.
''كان اليوم منذ بدايته مشؤوما'' هكذا تمتمت الفتاة...اليوم من أوله غير عادي بالنسبة إليها، نهوضها متأخرة على غير عادتها، وركوبها المترو في تلك الساعة وفي ذلك الازدحام... كان المترو مكتظّا...اختلطت فيه روائح العطور بروائح الأحذية وغيرها، حالة من الاختناق تولّدت لدى الجميع. غير أنّ الجميع كان مُجبرا على استنشاقها وربّما التذمّر سرّا أو تبادل نظرة اشمئزاز من الوضع مع من يحمل نفس الإحساس. اختلطت الأيادي وترامت، بعضها متّجهة نحو جيب هذا وحقيبة تلك، وبعضها الآخر كانت وظيفتها أن تتلاعب بأعصاب ''أماني'' وتحصرها في مكان يجعل منها فريسة اختارها كهل الخمسين ليُغذّي شهوة خاطفة. كانت الفتاة تُوجّه عينيها المملوءتين استغرابا وحيرة إلى رأس الكهل يكسوه بياض النضج والرشد...وتُحدّث نفسها محاولة الاقتناع بعكس ما يجري جليا أمامها وما يُحدثه الاكتظاظ وتلاحم الأجساد، غير أن محاولاتها تلك سرعان ما تلاشت أمام تأكّدها من أنّه يستغلّ الوضع ليتحسّس أجزاء من جسدها. لذلك وجدت أنّ الصمت لن ينفع في مثل تلك اللحظات، فألقت به جانبا وقرّرت مواجهة الرجل وأمره بالابتعاد عنها والتوقف عن مضايقة جسدها الصغير. كلّ تلك المضامين اختزلتها الفتاة في كلمتين ''الشيب والعيب''... كلمتان كانتا كفيلتين بأن تضرم حربا ضروسا في المترو قادها رجال ونساء ''في سابقة أولى تمّ فيها اتفاق الجنسين'' هكذا تحدثت الطالبة الجامعية مستهزئة. لم يستطع أحد أن يتماسك أمام ردّ الرجل ز أنا في سنّ والدك، صلّي على النبيّس.
كلمات ذات إيحاء ديني وأخلاقي نجحت في إخراج الفتاة في أبشع الصور وإنقاذ الرجل من الموقف وجعل الجميع في صفّه...''كانت وسائله مُقنعة لركاب كان همّهم الوحيد أن يفرغوا حقدهم فيّ وفي جيلي'' هكذا رأت أماني. في حين تضامن الجميع مع الرجل ''الوقور الناضج الراشد''. انهال الجميع عليها شتما ولعنا تجاوز والديها لسوء تربيتهما لها حسب اعتقادهم، وطال أيضا المدرسين... وبعضهم وصل به الحد إلى حمد الله لان أبناءه لم يدخلوا الجامعة ''موطن الفساد'' حسب تعبير بعض الراكبين. وطال فرنسا والانفتاح والعولمة ووسائل الإعلام...وذهب البعض بعيدا إلى حدّ لوم الدولة لأنها تسمح باستعمال الهوائي ولوم بورقيبة لأنه علّم المرأة وحرّرها... وتضيف أماني: ''كانت الحادثة مولّدة لعدّة مواضيع ناقشها الجميع فيما بينهم في غير انتظام. كما كانت تُنبِئُ بمُؤشّرات خطيرة في مجتمعنا التونسي، أصابني ذهول وأنا أستمع لنقاشات الراكبين والراكبات واستعمالهم لمصطلحات فضفاضة في غير محلّها...
وابل من الأسئلة انهالت عليّ من ذاتي إلى ذاتي... وتذكّرت الحضارة الأنقليزية التي أدرسها ودراساتي الجامعية التي نالها الشتم كما طال أهلي ومدرسيّ وجيل بأكمله. كان بوسعي أن أردّ على الجميع غير أنّ يقيني بأنّ الجميع لن يستمع إليّ، وإن استمع فلن يفهم شيئا من كلامي جعلني أصمت، وجعل ذاكرتي تُسعفني بحكمة تلوتُها على نفسي ''لا ينفع العقار في ما أفسده الدّهر'' ونزلتُ بلا رغبة في الذهاب إلى الجامعة''. نزلت الفتاة من المترو الخفيف مُثقلة بهموم وأوجاع مجتمع بأسره، حمّلها الراكبون والراكبات أخطاء جيل بأكمله وسلوك ''شباب اليوم''. كان حملا ثقيلا جعلها تنزل من المترو ولا شيء في ذاكرتها غير اعتقاد راسخ ''أنه من الصعب أن نحطّم نحن جيل اليوم- حضارة الصمت في مجتمع يُقدّسُ الرجولة ويغفر أخطاء الرجل ويتغاضى عن بعضها ويجد أعذارا لبعضها الآخر''.
هكذا تمتمت الفتاة بصمت وهي تخرج من محطة المترو لتواصل سيرها نحو الجامعة لتتعلّم فيها بكلّ صمت فنون الكلام.

الأربعاء، 21 فبراير 2007

الشباب والجنس..وعي جديد أم عودة التابوهات..!

"نحن بنات عائلات محترمة لا دخل لنا بمواضيع الجنس المخلّة بالأخلاق ولا نقبل أن يقلل أحد من احترامنا فيحدثنا فيها"، كذا اتفقت ثلاث فتيات على الإجابة عن أسئلتنا بشأن رأيهنّ في موضوع الشباب والجنس اليوم، فهل يمكن أن نقبل بهذا ونمضي...
ربّما يخال البعض أن تطوّر المجتمع التونسي وتعرّضه للمؤثرات المتعاظمة لوسائل الإعلام والاتصال الحديثة قد أزاح الستار الحديدي الذي جعل هذه القضية في زمن مضى من التابوهات المسكوت عنها اجتماعيّا، خاصة وأنّ هناك وعيا جديدا بدأ يرتسم لدى بعض شبابنا حسب ما أفادت به بعض الدراسات. كما أنّ التحوّلات التي شهدها المجتمع التونسي خلال العقدين الماضيين وحتى الظاهرة منها للعيان مثل مسألة اللباس أو حتى التمثلات الجمعية للدور الجديد للمرأة في المجتمع الاستهلاكي قد يوحي بزوال معظم تلك المقدسات الذهنية، غير أنّ الرفض الاستنكاري لبعض فتياتنا مجرّد الخوض في موضوع كيفيّة تعامل شبابنا مع الجنس دفعنا إلى مراجعة مواقفنا وآرائنا المسبقة بشأن هذه القضية، وهو ما شكّل محور هذا التحقيق الصحفي الذي أنجزته مجّلة "حقائق" تسليطا للضوء على موضوع لم يعد مبعث اتفاق...


كثيرا ما اعتبرت مرحلة الشباب، في أدبيات علماء النفس الاجتماعي، مرحلة تحوّل مفصلي من عالم الطفولة إلى عالم الكبار. ولئن كانت هذه المرحلة العمرية تشوبها الحركة والتغيير الجذري والميل غالبا إلى خوض تجارب جديدة والرغبة في تأكيد الذات، فإنها تشهد لدى الكثير من الشباب اضطرابا وعدم استقرار، بالإضافة إلى التوتّر والقلق الوجداني، ولذلك قد ترى الشاب يسعى بكل جهد إلى تحقيق استقلاليته عن أسرته ومجتمعه.
بعضهن تربط الجنس بثنائية الحلال والحرام من جهة، والعذرية من جهة أخرى كما هو حال أميرة فتاة العشرين، هي طالبة جامعية تظهر عليها علامات الفطنة والرصانة. الجنس كلمة تحمرّ وجنتاها الصغيرتان حين تسمعها وينحني لها رأسها خجلا... هو كذلك موضوع لا ينبغي الحديث فيه خاصة في البيت أو مع الأصحاب ولاسيما الذكور منهم، فذاك مدعاة للإهانة و خدش لأخلاقها.. وهذا ما يدفع أميرة إلى الانصراف عن المجموعة إذا ما انقلبت "المواضيع الجدية" إلى موضوع عن الجنس لأنه "يقلّل من الاحترام".

"الجنس عندي مسألة محرّمة لا نقاش فيها، فمنذ صغري تعلّمت من والدتي أن الجنس خارج الزواج يفقد البنت كنزها الثمين الذي يعتبر هدية تهبها المرأة لزوجها ليلة الزفاف وأنا لا أوافق الفتاة المخطوبة التي تمارس الجنس مع خطيبها. كما اعتبر ممارستهما تقرب من الحيوانية لأنها خارج إطار الشرع وأرى أنّ الخطيب الذي يفكر في الجنس قبل الزواج حتى وإن كان عن حب لا يحترم خطيبته.. ذلك أن كل شيء عندما يكون في وقته المناسب وفي شرعيته التامة يكون حلوا ومبعثا للراحة لأن الجنس يجب أن يكون مؤطّرا ولا يكون على الهامش لأنه في إطاره هو متعة ومبعث للسعادة والفرحة. وبالنسبة إليّ مثلا لا أتحدث مع خطيبي عن الجنس، حتى مجرد تلفظ الكلمة أرفضه لأنها سوقية في حين أفضّل تعويضها بكلمة حب، فهناك بون شاسع بين الحب والجنس فالأول عاطفة مقدّسة ومسموح بها خارج إطار الزواج، أما الثاني أي الجنس فهو خطأ فادح تكون الفتاة وحدها مسؤولة عنه في حالة وقوعه.

في الاتجاه ذاته روت لنا ريم وهي تلميذة تجتاز مناظرة الباكالوريا العام المقبل أن والدتها كثيرا ما حدّثتها "عن مسألة العذرية.. حذرتني من المغامرة العابثة بفقدانها أمّا مع صديقاتي في المعهد فليس لنا باع كبير في هذا الموضوع وبالتالي لا نتحاور بشأنه كثيرا. وبالنسبة إلى الفتيات في الجامعة واللائي يُعرفن بممارستهن تلك فإنني أرفض قطعيا التحدث إليهن خوفا على سمعتي خاصة وأن الكثير من الفتيات في الجامعة من هذا النوع".

ولئن كشفت الشهادات الحية عن انكماش بعض هؤلاء الشباب عن أنفسهم ورفضهم القطعي أو تحرجهم من الحديث في الجنس، فإن بحثا ميدانيا قام به الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري تناولت محور الشباب التونسي والحياة الجنسية أظهرت أنّ عيّنة من 2600 شابا وشابة تمّ استجوابهم يعتبرون في معظمهم أنّ الخوض في الحياة الجنسية لم يعُد اليوم أمرا محظورا، وأبرز البحث أن الشباب الذين يتمتعون بمستوى دراسي عال نسبيا يعبّرون عن آرائهم حول الجنس بأريحية أكثر من غيرهم وذلك بنسبة تبلغ 61 % من الطالبات ومن ذوات التعليم الثانوي ونسبة 71 % من الطلبة ونسبة 59 % من ذوي مستوى التعليم الابتدائي.
والملاحظ أن هذه الأرقام تخص الأشخاص الذين لا يجعلون من الجنس أولى اهتماماتهم، وهي كذلك نسب ترتفع كلما تقدّمنا في مستوى الانتماء الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي.

هذا التنوّع في الانطباعات التي تصل إلى حدّ التناقض أضحت أمرا يدلّ على التنوّع في المجتمع التونسي بصفة عامة وعلى أن المسائل التي تخص الإنسان لا تخضع لقاعدة علمية ولا يمكن تنميطها. فلئن كان الجنس عند أصحاب الشهادات يبدو للمرة الأولى مصدرا لخرق العادات والتقاليد ودليلا على سوء نية الطرف المقابل، فإن 68 % من الشباب المستجوب في الدراسة المذكورة يعتبر بأن الحياة الجنسية أمر هامّ و14 % منهم يرونها أمرا هاما جدّا مقابل 18 % من الذين لا يرون لها أهمية. فالجنس كما يبدو من خلال شهادات بعض الشبان مقدس وممارسة تأتي لتكمل التوافق العاطفي، في حين اعتبره 24 % من الشباب حاجة وضرورة، غير أن 8 % منهم يرون أنه أمر لا قيمة له ولا معنى.

في قلب الحـدث...

يقودنا هذا التفاوت في تقدير الشباب التونسي لأهميّة الجنس إلى مسألة المصادر التي يعتمدونها في تحصيل ثقافتهم الجنسيّة، ذلك أنّ تحديد رؤية الشباب إلى هذه المسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بالبيئة الاجتماعيّة التي نشأوا فيها باعتبارها المحدّد إجمالا للمصادر التي استقوا منها معلوماتهم بشأن الجنس.
وتفيد إحصائيات الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري أنّ نسبة الشباب الذين يلتجؤون إلى المحيط العائلي والاجتماعي في محاولة إيجاد إجابات لمشاغلهم الجنسية تتراوح بين 35 و43 % وتتفاوت حسب الجهات... بعض الأمهات لا يعير اهتماما لتلك الإحصائيات المخبرية، بل منهن من يحرصن على أن تكون الكلمة الأولى لهن في أول درس لأبنائهن في الجنس ومشمولاته..

آسية سيدة لم تتجاوز عقدها الرابع من العمر، فلا تخالها وأنت ترى شكلها ومظهرها الخارجي أن لها بنتين في سن الخطوبة، عملها كسكرتيرة عند أخصائي في أمراض النساء والتوليد يمكّنها من معرفة المشاكل التي يتعرض لها الشباب في بداية حياتهم الجنسية كما يجعلها تتحدث عن هذا الموضوع بكلّ أريحية، فهي كما تقول ضاحكة "أنا في قلب الحدث"، هي من الأمهات اللاتي لا يجدن حرجا في أن يكسرن الحاجز المتين الذي تشيّده النواميس الاجتماعية حول موضوع الجنس، فهي لا تتوانى عن بثّ المعلومة إلى صغارها وإسداء النصيحة في عصر تساهم فيه عوامل عديدة لترسم في الأذهان صورة نمطيّة عن الجنس.. تقول "إن وسائل الإعلام وخاصة منها الفضائيات بما تتضمنه من أفلام ومسلسلات تبيح أمورا خارجة عن عاداتنا وتقاليدنا ولكونها تُعرض بطريقة تشدّ انتباه الشباب التونسي وتقدم أمورا أراها تتلف عقولهم وتفسدها، لذلك تراني في بعض الحالات اضطرّ إلى التوغل في الحديث عن الجنس مع أبنائي، ولا أجد حرجا في الإجابة عن أي سؤال يطرحه علي فرد منهم وفي أحيان كثيرة أمرّر أفكارا حول هذا الموضوع دون أن أكون قد سئلت عنها".

وتضيف محدثتنا بثقة "أنا أفضل أن أكون مصدر معرفة بناتي بخفايا هذه الأمور على أن يعرفن ذلك من أحدى أصدقائهن ممّن لا خبرة أو معرفة لديهن بالأمر حتى لا تمرّر إليهن معلومة قد تؤدي إلى خلل في تربيتهم الجنسية والذوقية. وهو الشيء الذي يجعلني أعمل جاهدة على أن حماية أبنائي من الأساليب المبتذلة التي يتمّ تمريرها في الأفلام أو فيما يروّج من أحاديث الأصدقاء المراهقين عن الجنس والمغامرات المرتبطة به والتي قد تؤدي بالبعض إلى السقوط في منعرجات لا يعلمها إلاّ الله.

من الجدير بالذكر في هذا الصدد أنّ الشباب قد أوجدوا لأنفسهم مصادر أخرى للتثقيف الجنسي بعيدا عن العائلة، إذ يمثل الأصدقاء حسب ما جاء في الدراسة المذكورة أن نحو 9 % من مصادر المعلومات الرئيسية حول موضوع الجنس بالنسبة للشباب...

قلّما واجهتنا امرأة تتحدّث عن موضوع الشباب والجنس بمثل هذه الأريحية والمعرفة والثقة فيما تقول وتفعل، أضافت آسيا قائلةً "حين أتحدث عن الجنس مع أبنائي، أضع في اعتباري أن لا فرق بين الجنسين في التثقيف الجنسي، فقبل أن يأتي سن البلوغ تراني أحرص على أن أفسر لأبنائي التغيرات الفيزيولوجية التي ستطرأ على أجسادهم ذكورا كانوا أو إناثا لكي لا يستغربوا فيما بعد حصول ذلك ولكي لا يتعرضوا إلى "صدمة نفسية فتكون مراهقتهم مضطربة تتخللها أزمات تفرز كهلا مضطربا ومعقدا، غير أني أقوم بتثقيف أبنائي ثقافة جنسية أراعي فيها السن لأنه وحده الذي يحدّد زوايا الحديث في الجنس. وأحاول في كلّ مرة تقديم الجنس في أحسن صورة من منطلق إيماني أن له سرا خاصا في خلق علاقات متوازنة وبثّ التفاهم فهو يأتي ليكمل بالضرورة عاطفة الحب.
فالجنس -حسب اعتقادي- يجب أن يقدم للأبناء على أساس أنه شيء مقدس، فهو مصدر وجودهم في الحياة وليس أمرا مبتذلا أو خارج عن الأخلاق وهنا عليّ أن أوضح أنني أتحدث عن الجنس داخل إطاره الشرعي".

نمط الحياة تغيّر، والعادات والتقاليد لم تكن تسمح للأم في الماضي بأن تتصرّف مع أبنائها مثلما تفعل السيدة آسيا اليوم. تقول في هذا السياق "بالنسبة إلي لم تكن هذه المواضيع تطرح في صغري أصلا، إذ كانت تعتبر موضوعا محرما لا نتحدث بشأنه وإنما نمارسه فقط ليلة الزفاف. لذلك فإني أحاول سدّ الثغرات التي كانت تميّز علاقتي بوالدتي حتى أبني علاقة متينة بيني وبين أطفالي. كل الأشياء التي كنت أتمناها ولا تلبيها أمي جعلتها مواضيع حديث ونقاش بيني وبين أبنائي. ولكن في بعض الحالات -وهذا ما أريد الإلحاح عليه- أن المعلومة التي نقدمها لأبنائنا اليوم لا تفحمهم وإنما تفتح شهيتهم على ما هو أكثر وأعمق".


الجنس هو العذرية...

من البديهي أن تبقى هذه الاستنتاجات رهينة التنشئة الاجتماعية التي نشأ عليها الشباب، فمثلا مريم وهي الآن في عقدها الثالث، فتاة مثقفة تختزل صورة الفتاة التونسية الناضجة والجدية عملا وسلوكا، تحدثنا عن موضوع الجنس. كما تربّت عليه في أسرتها بعيدا عن نواميس المجتمع "لا نتحدث في عائلتي عن الجنس بصفة مباشرة ومن منطلق حدث أو تجربة ذاتية وإنما نضعه على المحك عندما يكون متصلا بمشكل أو حدث إعلامي من ذلك مثلا البرامج التحسيسية حول مرض "السيدا". في هذا المجال يتسع الحديث في الجنس خاصة من طرف والدتي، فيكون الحدث الإعلامي وسيلة تمرّر بها والدتي اقتراحاتها وملاحظاتها حول الأمر وتجعلنا مستهدفين نحن البنات في المنزل بطريقة غير مباشرة بتلك الملاحظات فكما يقول المثل الشعبي "الكلام على خويا والمعنى على جاري" وقد تربط مسائل متعلقة بالجنس بالدراسة مثل الحمل غير المرغوب فيه أو "السيدا" لتستغرب وتلعن الشباب الذي لا يطبق -حسب رأيها- ما يدرسه في العلوم الطبيعية.

بدأت الحاجة نعيمة حديثها معنا بطلب الستر من الله "كنا وإلى الآن لا نحكي في هذا الموضوع، ولا نعرف الجنس إلا قبل أيام معدودات من الزواج. إذ كانت مهمة التوعية الجنسية موكولة إلى "الحنانة" تقدم لنا في احتشام كبير بعض من خبرتها تتصل خاصة بمسألة نظافة جسد المرأة وحسن معاملتها مع زوجها وخاصة طاعته". وتستدرك محدثتنا "أتذكر شخصيا أن إحدى قريباتي توّلت من خلال تجربتها الشخصية المهمة معي ليلة الزفاف دون أن تدخل في التفاصيل لأن الحديث عن ممارسة جنسية شخصية يعتبر حراما كذلك كان الخجل يمنعني من سماع الكثير عن الأمر. ولما رزقني الله ببنتين كان حديثي موجها خاصة إلى نصحهما بالانتباه وأن يفعلا ما يحلو لهما إلا منطقة واحدة محرمة ولا يجب تخطيها، فالفتاة إذا ما فقدت يوما عذريتها فإن عمرها قد انتهى"...

هكذا تلخص الحاجة نعيمة الجنس في كلمة عذرية، ففي فقدان البنت لعذريّتها تحدث الكارثة، بل وهو بمثابة الموت المعنوي بالنسبة إلى الفتاة.. استنكرت غاضبةً وعلى سماتها علامات الانفعال الشديد ما تراه من "فتيات هذا الجيل" ففي رأيها "فتيات اليوم يصل بهن الجهل إلى حد الكفر ومشاركة الله في تحديد المصير وكتابة القضاء والقدر، فمن مغامرة طائشة أو علاقة حبّ قد تكون عابرة أو علاقة خطوبة تستبيح الفتاة لنفسها تسليم جسدها وهدر عذريتها من أجل خطيبها بتعلة أنهما في طريق مآله الزواج"... وهنا تواصل الحاجة كلامها مستغربة "من منا يضمن لنفسه شيئا؟ من أدراهن بالمستقبل وهل أنهن ستتزوجن ممّن أقمن معه تلك العلاقات؟"...

تسترسل محدثتنا في حديثها وتساؤلاتها في الاتجاه نفسه "لماذا يسقطن أنفسهن في دهاليز من الآلام نهايته تشرّدهن وتشرّد أطفال أبرياء يملؤون المستشفيات وديار الرضع. لا أنكر وجود الممارسات الجنسية في جيلنا سابق، لكن الأمر كان مغايرا تماما كل شيء في جيلنا كان "بمرونة" أما اليوم فالأمر مستفحل وحتى البنت "النظيفة" لا تلاقي احتراما كبيرا وإنما تدعى بالمتخلفة والمعقدة بل والمريضة نفسيا"... تضيف السيدة نعيمة بكل سخط ولوم وتحسر "بصراحة الفتيات في تونس تجاوزن كل حدود الدين والأخلاق واللياقة، يتعاطين الجنس بكثرة حديثا وممارسة. قد أخذت بنات العائلات بذنب البنات الأخريات، الله يهديهن، إذ حطمن أنفسهن وحطمن الشريفات ولوثن سمعة تونس بأكملها، فمن أجل الماديات، تبيع بعضهن جسدهن والأدهى والأمر أنهن يعتبرنه مصدر عيش، بئس عيش يكون مقابله شرف بنت وشرف عائلة بأكملها وبلد بأكمله. لذلك أدعو المعنيين بالأمر إن كانوا سلطة قرار أو أولياء أو وسائل الإعلام أن يتشدّدوا في الحرص والعقاب ليكفوا عنّا هذا التسيّب الفاضح في الطريق العام.

أحيانا تشعر بأنك تتحدث مع شخص واحد مع أنّك تحدثت في الموضوع نفسه مع العديد، السيدة أمينة مدرسة في التعليم الابتدائي شارفت على العقد الخامس من العمر وتتشبث بالموقف المحافظ نفسه للحاجة نعيمة، تقول "أنا لست ضدّ تحرّر المرأة بالعكس بعض النساء اليوم نفتخر بمستواهن التعليمي والفكري ولكنني أتحدث عمّن جرفها تيار الغرب ونسين أننا في مجتمع عربي إسلامي له موازينه وخصوصيته، مما جعل الشبان يفقدون الثقة في بنات بلدنا وبالتالي يضربون عن الزواج لذلك أناشدها ألا تفرّط في شرفها وألا تتساوى مع الرجل في الركض وراء النزوات، فالرجل لا يخسر مطلقا بل هي الخاسرة..."


سنة أولى جنــس...

التجربة الجنسية الأولى لها حكاياتها وأسرارها، عدد من الشباب الذين تحادثنا معهم حاولوا إنكارها أصلا، ولكن في كلّ الأحيان تناقضت التقييمات لهذه التجربة التي بدت للبعض استثنائية نفيسة وللبعض الآخر مؤلمة بطعم الحنظل..
روت لنا سامية بعض تفاصيل تجربتها الأولى، فقالت "في العشرين من عمري تقريبا، كان لي أول موعد مع الجنس، أتذكر أني وقتها كنت في قمّة السعادة وفخورة بتجربتي الجنسية الأولى ولا أخفي سرّا أني إلى الآن أحتفظ بنفس الشعور، ولم أندم على ذلك مطلقا بالعكس أنا فرحة لأني وهبت نفسي لمن أحب، كنت أعرفه منذ سنة كاملة وكنا نتحدث في كل شيء، من ضمن تلك الأشياء كان الجنس موضوعنا كنت طالبة جامعية وكان يكبرني بالكثير الكثير، كان الجنس بالنسبة إلينا موضوعا كسائر المواضيع الاجتماعية والنفسية، وقد فكّرت كثيرا قبل "الهدية" وفكرنا أكثر. وبعد تردّد دام طويلا وجدتني على اقتناع تام لأهبه عذريتي وأصير امرأة على يديه وخاصة بعد إعجابي الشديد به وثقتي المتناهية فيه. وحسب تجربتي الشخصية، فإن الثقة والإعجاب هما شرطان مهمان أضف إلى ذلك ضرورة وجود مرحلتين ينبغي المرور بهما وهما الاقتناع الأولي العقلي ثم الاقتناع الفعلي بالممارسة. وفي حضور هذين العنصرين يمكن للفتاة أن تعيش اللحظة قبلها وبعدها في سلم نفسي. العذرية موضوع غير مطروح في عائلتي، لأنّ الأمر يعتبر مسألة شخصية كذلك الجسد هو ملك فردي لا سلطان للغير عليه. كما أنني لم أتربّ على أن العذرية تعتبر مشكلة في حالة فقدانها. لذلك كنت مرتاحة البال ليس لي هاجس الخوف من الخسارة".

على خلاف تجربة سامية، فإنه غالبا ما تكون التجربة الأولى لدى الشباب مجرد إرضاء فضول وبحث عن تجربة لم يتم خوضها سابقا، فالشاب قد يتعرض فيها إلى صعوبات ومشاكل ناتجة عن قلة الخبرة وعن رغبة مندفعة في الوصول إلى أقصى حدّ من إرضاء الشهوة. أما الفتيات فهن غالبا لا يحققن في تلك التجربة متعة كاملة حتى في حضور ممارسة مبنية على الحبّ لأنها في مرحلة اكتشاف لجسدها ورغبتها في أن يكون ذلك بالتدرّج.

وفي حين يرى بعض شبابنا في أول علاقة جنسية متعة ولذة فإن البعض الآخر يعتبرها مصدر قلق وخيبة أمل ووخز الضمير. كما تعتبر هذه التجربة الأولى في نظر الأخصائيين هامة جدا لأنها ستشكل الحياة الجنسية للكهل مستقبلا بما يدعو إلى الإحاطة بالمراهق لكي يعيش التجربة الأولى بطريقة لا تؤثر فيه نفسيا مستقبلا.

إحدى الفتيات التي طلبت منا عدم ذكر اسمها أو ربما تكون قد أمدّتنا باسم خاطئ تحدثت عن تجربتها الأولى وقالت إنها لا تتذكر منها سوى شذرات من ألم: "كل ما أتذكره أن الخوف كان يمزّق أحشائي والشك كاد يقتلني وقتها... كان شكّا في كل شيء وفي لا شيء وبعدها استسلمت إلى الألم الجسدي والنفسي..."

الفتيات في هذه التجربة الأولى قلما يشعرن بالمتعة على خلاف الشبان. ذلك أن الجنس بالنسبة للفتيان يمثل وسيلة للتعبير ولإظهار مدى قوتهم ومكانتهم وخاصة مدى قدرتهم على التحرّر من رقابة الأهل، في حين تعتبر هذه التجربة بالنسبة إلى الفتيات مصدر ألم وانتقال من عالم براءة "الطفولة" إلى عالم النساء...

تلك هي التجربة الأولى يخوضها الشباب التونسي -حسب إحصائيات الدراسة المذكورة أعلاه- في السن المتراوحة بين 16 و17 سنة بالنسبة إلى التجارب الجنسية السطحية و18 سنة بالنسبة للممارسة الجنسية الكاملة. وحتى في هذا الخصوص فإنّه ممّا يلاحظ أن العلاقات السطحية لا تعدّ مصدر خوف بالنسبة إلى شبابنا، حتى أنّ نسبة هامّة منهم لا تستعمل وسائل الوقائية من الأمراض المنقولة جنسيا، إذ أن 47 % من الشباب يعتقدون أن الوسائل الوقائية ضارة بالصحة، وهذا موضوع لآخر يستوجب أكثر من مراجعة لمدى جدوى الحملات التحسيسيّة.

بقي أن نشير إلى أن 3 % من الفتيان لا يحدّد سن التجربة الجنسية الأولى، في حين أنّ 9 % من الفتيات يتذكرن سنّهن في تلك المرحلة. وهذا في الواقع قد يضيء بعض الضوء على اختلاف تمثلات الجنسين لمسألة رؤيتهما للجنس والتعامل معه واستبطان ما يمكن نسيانه أو السكوت عنه...