الاثنين، 14 يوليو 2008

شذرات من الواقع الكويتي

كانت تتكلم، تصرخ، تتأوه، تبكي ... أفعال تقوم بها في استرسال يصعب إيقافه، تواصل حديثها من دون انقطاع،
ومن دون اكتراث لنا إن قطعنا حديثها... تغمسه بالدعاء على الأطباء تارة وتعقبه بالنصيحة مرات كثيرة... كلامها قرارات كانت تحكمها لحظات الألم التي تعيشها وتشرك عائلتها فيها غصبا عنها.
قد نعذرها عليها وقد نرقّ لحالها... وفي الحالتين لا نملك إلا أن ندعو لها بالصبر. "لو أموت من الألم لن أتعالج هنا مطلقا في الكويت، حتى الأدوية وإن كانت مسكنات لن آخذها".
هذه كانت بعض الكلمات القرارات التي صرخت بها محدثتنا في محاولة منها للثأر لنفسها... أقوى حل عندها أن تفضفض وبقية الحلول تراها غير مجدية حتى القانونية منها.
هذا القرار، على ما يبدو عليه من انفعالية، قد ينذر بالخطر في بلد تمثل الجاليات الوافدة فيه ثلثي عدد السكان الذي يبلغ حوالي 3.2 ملايين نسمة.
وما يزيد في خطورة الموقف أن المتحدثة تتعدى التصريح بقرارها إلى التحذير والنصح بعدم العلاج هنا في الكويت... "أنصحك بلاش علاج هنا في الكويت"...
هذه الكلمات رغم أنها حاملة لدرجة كبيرة من الألم تجعل، التساؤل مشروعا حول كفاءة بعض الأطباء في بعض المستشفيات من جهة ومدى صدقية ضميرهم المهني.
محدثتنا اليوم لم تكن لتتوقع المرض بالزكام يوما، فإذا بها تجد نفسها ذلك اليوم أمام مرض عضال لم يرحم قبلها رضّعا وأطفالا لم يبصروا من الحياة شيئا ولم يفقهوا معنى الظلام والدموع، رغم صراخهم وبكائهم لحظة ميلادهم. هي آلاء فتاة مصرية مقيمة في الكويت مع زوجها،
لم يمر على زواجها إلا أشهر قليلة، هي اليوم بعد مضي أيام تعيش ولادتها من جديد بعد آلام نفسية رافقتها وتجاوزتها، لتنتشر بين أفراد أسرتها وأسرة زوجها...
آلام كان البطل فيها بالدرجة الأولى وبتميز أحد المستشفيات المعروفة في الكويت... تعيش هذه الأيام لحظة ميلادها الثانية. ابتدأتها ككل مولودي العالم بكاء، غير أن الفرق بين ولادتيها الأولى والثانية يكمن في مدى الوعي بالبكاء.
كان بكاؤها في لحظة ميلادها الأولى عن غير رغبة منها، وعن غير فهم وإحساس به، لحظة ميلادها الثانية كان البكاء فيها طواعية وبإصرار المحب للحياة، الراجع للحياة، الممنوح فرصة أخرى للحياة والتصالح مع الجميل فيها والسيئ.
آلاء فتاة السابعة والعشرين كانت ككل الفتيات تحلم بفارس أحلام تختاره، فكان لها أن وهبها القدر ما تمنته، ولأن الله كريم يعطي من دون حساب، فقد استفاض كرمه عليها وكرمها بأن تكون حاملا منذ أشهر زواجها الأولى... غير أن الفرح كان عمره قصيرا لم يتجاوز أسابيع، انتهت بها إلى تقرير طبي يؤكد سقوط حملها، وبالتالي سقوط أحلامها أرضا.
لم تتوقف آلامها عند هذا الحد، وإنما اكتشفت إصابتها بورم خبيث حسب تقرير طبي مكثف صادر عن مستشفى له صيت واسع في الكويت.
كيف لا وهو الملقب بالمستشفى (....)... الكشف عن الأسماء لا يعنينا بالدرجة الأولى بقدر ما يعنينا لفت النظر إلى بعض الأخطاء الطبية في بعض مستشفياتنا هنا في الكويت... لنعلم بأن الخطأ وارد في كل المستشفيات من دون استثناء، باعتبار أن من يعمل في تلك المؤسسات هو إنسان لا يخضع إلى قانون الكمال... ولأن الإنسان بشر يسمح له بالخطأ أو السهو، فإن في بعض الحالات يكون الخطأ فيها غير مسموح، خاصة إذا كان مؤديا إلى كارثة تكون نهايتها قتل نفس بشرية عن غير قصد، كما هو الحال بالنسبة إلى محدثتنا.
حسب التقرير الطبي والصور بالصدى والأشعة ثلاثية الأبعاد وسلسلة من الفحوصات التي استنزفت أرقاما كبيرة لها، أثبت سقوط حمل آلاء، وبناء على تلك التقارير الطبية الصارمة خضعت محدثتنا إلى فحوصات أخرى كثيرة تعتمد في الأساس على فحوص بالأشعة، وبناء عليه كذلك اكتشف الأطباء إصابتها بورم خطير يوجب خضوعها إلى عملية فورية.
ولأن التأمين رفض تغطية تكاليف العملية، ولكون أسعار مستشفى (....) باهظة جدا، فاضطرت محدثتنا إلى أن تعود إلى مصر مسقط رأسها لإجراء العملية الصعبة بسعر "معقول" على حد تعبيرها من جهة، ولكي تكون في تلك الحالة الصعبة وسط عائلتها. وطبعا وفق التقارير الطبية الصادرة عن مستشفى (....)، حدد موعد للعملية في مصر طبعا من دون التشكيك في نتائج الفحوصات في الكويت.
ولأن الظروف تخدم أحيانا ايجابيا، فقد اكتشف ما لم يكن في الحسبان، "كنت دائما اشعر بأن في الأمر خطأ، لم أكن رغم صرامة التحليل الطبي أصدق أنني مصابة بداء السرطان، كان يخالجني إحساس داخلي بأن ما بداخلي جنين، ما زال على قيد الحياة وينمو شيئا فشيئا...". أحيانا تكتنفنا بعض الأحاسيس، التي لا ندري هل هي استباق منا للحدث أو استشعار منا له أو حد يفصل بين قمتي الصدق والتوحد مع الغيب..
كذا كان حال محدثتنا، "قلب المؤمن دليله"..هذه المقولة على ابتعادها عن المنطقية تبقى في حالات كثيرة حلا أمام عجزنا عن فهم أمور عدة تخالجنا.. ولكون آلاء مؤمنة إلى أبعد الحدود... كان يقينها صادقا إلى أبعد الحدود... كان الجنين لا يزال على قيد الحياة فعلا حسب آخر تقرير طبي أقيم لها في مصر، كما تنص عليه الوثائق المرفقة لهذا العمل... الجنين على قيد الحياة وعمره 11 أسبوعا ويومان بالضبط،
وبالتالي يؤكد أن الكتلة الموجودة في رحم محدثتنا لم تكن بالمرة ورما قاتلا، وإنما هي دليل على وجود حياة داخل أحشائها من جهة ودليل على سلامة والدته مع إيقاف التنفيذ من المرض الخبيث. "لا شيء يضاهي وجودك في الكون بجسم سليم"، كذلك تمتمت محدثتنا بكلام تتجاذبها الفرحة لسلامة جسمها من داء السرطان وألم لكون ابنها مشوها بفعل الأشعة التي خضعت إليها، باعتبار أن التقرير كان يؤكد خلو أحشائها من الجنين. كان الجنين مصيره الإجهاض ليخلص من حياة يشوبها التشويه والعلة.
من المفارقات أن يبعث الجنين الحياة والأمل لأمه وهو يفارق الحياة، يهبها الحياة ويكون برهانا على صحتها ومعاناتها رغم تشوهاته وآلام لم يشعر بها.
"هذه الدنيا عجيبة غريبة" كما تذكر لنا محدثتنا، تحب جنينها ولن تنساه كما لن تنسى من وهبها إلى الرعب ووهب جنينها إلى الموت تشوها.
لم يبق لها أمام ما عاشته من ألم هي وعائلتها إلا أن تغمس عينيها بالبكاء وترفع أعينها قائلة "حسبي الله ونعم الوكيل، أنا مش مسامحة"...
حرارة دموعها تلك المتناثرة أمطارا على وجنتيها الذابلتين وعيونها الناظرة إلى السماء، تدعو سخطا على الأطباء، وتصيب جسمنا بقشعريرة خفيفة وتجعلنا بدورنا نطلب من الأطباء في الكويت بصفة خاصة والعالم بصفة عامة التثبت والتثبت ثم التثبت، فحياة الإنسان ثمينة جدا وإن كان جنينا.
قصة آلاء من الواقع، كما تبين ذلك الوثائق، ونتمنى أن يكون واقعا لا يتكرر في دولة تولي أهمية كبرى للإنسان من دون اعتبار لسنه أو جنسه أو عرقه أو مذهبه أو دينه...