الأحد، 16 نوفمبر 2008

لبورصة عندما تصبح أفيونا...حكايات من الانكسار والانتصار


رجال تخونهم الظروف والبورصة، فينهار البعض منهم بانهيارها. لا يكاد الواحد منهم يُلملم ما تبقّى له من قوة ليخرج من قاعة الأوراق المالية، وإن خرج، فقد تذهب به الصدمة الى نسيان مكان سيارته من الموقف.
بعضهم يرتبط مزاجه بمزاج هذا السوق، وبما ان مزاج هذا الاخير متعكّر الى ابعد الحدود.. فمزاج بعضهم بالتالي كان امس واليوم متعكرا الى ابعد الحدود...
بين ارتفاعها النسبي، وانخفاضها المستقر، وايقاف التداول تبقى للمتداولين على شاكلة كل البلدان التي طالتها الازمة قصص وحكايات تقدمها “الصوت” لاحباء المغامرة.
صدمة الخسارة مخدّر؟
“الوقت فات للتراجع والتخلّي عن هذا الهوس، وقد خلفت البورصة الدم في عروقي، ورهانا ينبغي علي تحديه لاسترجاع ما خسرته” كذلك يرى أبوجاسم، وهو رجل في الخمسين من عمره، دخل البورصة عن هوى، وهو اليوم لا يتخيل نفسه يخرج منها مهزوما خاسرا، وان استرجع خسارته كذلك لن يخرج منها، جدلية يعيشها أبوجاسم بين الربح والخسارة، بين النكسة والفرح، فالنكسة تحثه على الركض خلف الفرح...والفرح بدوره يدعوه بالحاح لاقتفاء المزيد منه، حاله حال الكثيرين في الكويت وفي الخليج وفي كل قُطر من عالمنا الكبير.
أصبحت البورصة بالنسبة إليهم افيون العصر على حد تعبير أحد المتداولين.
هذا الركض الدوري المنتظم متعة عند البعض وشغل الشاغل لدى البعض الآخر، فالتحدي كما يفسره الاختصاصيون ميسم يدخل طعما على الحياة البشرية ولا يقف على عرق من دون آخر او مذهب من دون آخر او لون او بلد، وانما يحدد هوية الاشياء، فمدى قدرة الانسان على التحدي والاستمرار والصمود تحدد نوع الشخص.
هذا المنطق يؤكده عاشق من عشاق البورصة أبوظافر، الذي رغم صغر سنه نسبيا (37 سنة) ورغم عمله كمحاسب في احدى الشركات الخاصة، فانه عاشق للبورصة من درجة اولى...كيف لا وهو يلعب في مجال الارقام والحسابات باعتبار اختصاصه في المحاسبة، تهزه الازمة والخسارة، لكنه لا يتوانى ان يتمسّك بها، حاليا خسر الكثير من مدخراته ومدخرات اخوانه، لكنه لا يتأثّر كثيرا وانما يعتبر الامر عاديا، فكذلك هي سوق الاوراق المالية “مرة فوق ومرة تحت” حسب اعتقاده، الازمة محلية وعالمية والكل تأثّر بها ويتأثّر يوميا، فهي ازمة ليست فردية خاصة لينهار”.
بهذا المنطق المعتدل يتقبّل محدثنا الخسارة “بكل روح رياضية”، ولسنا ندري هل هي مكابرة منه ورغبة في عدم اظهار ضعفه أمام “المصاب” او حرارة الالم من الخسارة تصل ذروتها لديها فتنقلب بردا وسلاما، أم تراها رصانة وقدرة فائقة على تحمّل الخسارة قوة وعقلنة؟
ومهما كانت دوافعه لهذا الهدوء الظاهري، فان ما يبدو على محيا محدثنا ينبئ الى حد ما باقتناع بموقفه تجاه الخسارة، نتمناه ان يكون منطقا يتحلّى به المتداولون صبرا وتصبّرا.
البورصة تكسر شوكة الرجال
ولئن كانت بعض العينات من المتداولين تقوى امام “الفاجعة” كما يلقّبها أبومازن، الا ان البعض منهم لا يكاد يقوى امام انهيار ماله ومدخراته ومدخرات اسرته، وربما ضياع بيته وحتى سيارته.
“خراب ديار مستعجل”، بعدما كانت السوق المالية تعمّر ديارا وتبني اخرى، وتملأ رصيد البعض، اصبحت اليوم طوفانا ماردا يسحق ارصدة المتداولين، ويدمّر بعض الديار ويفرغ ارصدة البعض.
السيد أبومازن واحد من هؤلاء المعتقدين بما نقول، فحسب رأيه: لا شيء يقف امام هذا المارد، فمع انهيار سوق الاوراق المالية، لا حساباتنا البنكية بقيت، ولا مدخراتنا، وارصدتنا لم تعد مثلما كانت، ولا حياتنا نعيشها مثلما كنا نعيشها، ولا بقيت الابتسامة تضيء حياتنا...
هذا بعض مما اصبحنا نعيشه ويعيشه غيرنا في العالم”.
بمرارة كبيرة، يعترف أبومازن بالهزيمة امام ما هيأ له البعض لتلاقي حدة الازمة، فقد شغلنا نواقيس الانذار بصفة متأخرة، الكل حسب لها الف حساب واستشرف مخاطر الازمة ونتائجها وبالتالي اعد لها العدة الا نحق، وها نحن نجني ضريبة غياب الاستراتيجية في معاملاتنا المصرفية خلال الفترة الراهنة”.
كذلك، يقيّم أبومازن الوضع، فرغم انهياره النفسي الواضح، فانه استطاع ان يحلل الوضع بطريقة تنبئ عن حكمة وتشي بمرارة الرجل. متداولون يقفون واجمون شاردو الذهن امام شاشات عملاقة تفضح خسارتهم.
الكثير منهم يلتزم الصمت في ذهول ووجوم، والبعض الآخر منهم يكون سلاحه الصراخ ولعن البورصة وطلب اللطف، والبعض الآخر قد لا تقوى رجلاه على حمله، فيهوي ارضا كما تهوى الاسهم. واحد من بين هؤلاء يصرّح لـ”الصوت” : “البورصة كانت سببا في كل “اللخبطة” التي اعيشها في بيتي وجسمي، في البيت لا شيء غير المشاكل، اعترف انني صرت لا اطاق ولا احد يعذرني في البيت، كذلك جسمي صارت فيه “لخبطة” “ أبو أحمد رجل في العقد الخامس اكسبته البورصة الكثير، وهي اليوم تأخذ منه الكثير على حد تعبيره.
ولعل أهم ما اخذت منه، اضافة الى مدخراته، صحته، فهو اليوم مصاب بمرض السكري والضغط ويخشى على نفسه من تفاقم المرض وارتفاع الضغط، لذلك أصبح سلاحه الوحيد رياضة المشي والنرجيلة والانفراد بنفسه بعيدا عن العائلة، وقد خسر جميع افرادها تقريبا مدخراتهم بسببه، وكذلك بعيدا عن أصدقائه، هو اليوم لا يقوى إلا على الانتظار.
شخصية المتداول
بين الصمود امام انهيار البورصة وايقاف التداول، تختلف مواقف المتداولين باختلاف نفسياتهم وشخصياتهم، ولئن كانت في أحيان كثيرة تعبّر عن شخصية المتداول، إلا أنها في أحيان كثيرة تشي بعدم قدرة البعض على الصمود أمام الخسائر التي تفرزها رغم قوة شخصياتهم وجلدهم امام مواقف صعبة، لان الوضع فاق كل التوقعات.

الخميس، 13 نوفمبر 2008

شذرات من الواقع الكويتي 2

كانت تتكلم، تصرخ، تتأوه، تبكي ... أفعال تقوم بها في استرسال يصعب إيقافه، تواصل حديثها من دون انقطاع، ومن دون اكتراث لنا إن قطعنا حديثها... تغمسه بالدعاء على الأطباء تارة وتعقبه بالنصيحة مرات كثيرة... كلامها قرارات كانت تحكمها لحظات الألم التي تعيشها وتشرك عائلتها فيها غصبا عنها.
قد نعذرها عليها وقد نرقّ لحالها... وفي الحالتين لا نملك إلا أن ندعو لها بالصبر. "لو أموت من الألم لن أتعالج هنا مطلقا في الكويت، حتى الأدوية وإن كانت مسكنات لن آخذها".
هذه كانت بعض الكلمات القرارات التي صرخت بها محدثتنا لـ"الصوت" في محاولة منها للثأر لنفسها... أقوى حل عندها أن تفضفض لـ"الصوت" وبقية الحلول تراها غير مجدية حتى القانونية منها. هذا القرار، على ما يبدو عليه من انفعالية، قد ينذر بالخطر في بلد تمثل الجاليات الوافدة فيه ثلثي عدد السكان الذي يبلغ حوالي 3.2 ملايين نسمة.
وما يزيد في خطورة الموقف أن المتحدثة تتعدى التصريح بقرارها إلى التحذير والنصح بعدم العلاج هنا في الكويت... "أنصحك بلاش علاج هنا في الكويت"...
هذه الكلمات رغم أنها حاملة لدرجة كبيرة من الألم تجعل، التساؤل مشروعا حول كفاءة بعض الأطباء في بعض المستشفيات من جهة ومدى صدقية ضميرهم المهني.
محدثتنا اليوم لم تكن لتتوقع المرض بالزكام يوما، فإذا بها تجد نفسها ذلك اليوم أمام مرض عضال لم يرحم قبلها رضّعا وأطفالا لم يبصروا من الحياة شيئا ولم يفقهوا معنى الظلام والدموع، رغم صراخهم وبكائهم لحظة ميلادهم. هي آلاء فتاة مصرية مقيمة في الكويت مع زوجها، لم يمر على زواجها إلا أشهر قليلة، هي اليوم بعد مضي أيام تعيش ولادتها من جديد بعد آلام نفسية رافقتها وتجاوزتها، لتنتشر بين أفراد أسرتها وأسرة زوجها... آلام كان البطل فيها بالدرجة الأولى وبتميز أحد المستشفيات المعروفة في الكويت... تعيش هذه الأيام لحظة ميلادها الثانية.
ابتدأتها ككل مولودي العالم بكاء، غير أن الفرق بين ولادتيها الأولى والثانية يكمن في مدى الوعي بالبكاء. كان بكاؤها في لحظة ميلادها الأولى عن غير رغبة منها، وعن غير فهم وإحساس به، لحظة ميلادها الثانية كان البكاء فيها طواعية وبإصرار المحب للحياة، الراجع للحياة، الممنوح فرصة أخرى للحياة والتصالح مع الجميل فيها والسيئ.
آلاء فتاة السابعة والعشرين كانت ككل الفتيات تحلم بفارس أحلام تختاره، فكان لها أن وهبها القدر ما تمنته، ولأن الله كريم يعطي من دون حساب، فقد استفاض كرمه عليها وكرمها بأن تكون حاملا منذ أشهر زواجها الأولى... غير أن الفرح كان عمره قصيرا لم يتجاوز أسابيع، انتهت بها إلى تقرير طبي يؤكد سقوط حملها، وبالتالي سقوط أحلامها أرضا.
لم تتوقف آلامها عند هذا الحد، وإنما اكتشفت إصابتها بورم خبيث حسب تقرير طبي مكثف صادر عن مستشفى له صيت واسع في الكويت. كيف لا وهو الملقب بالمستشفى (....)... الكشف عن الأسماء لا يعنينا بالدرجة الأولى بقدر ما يعنينا لفت النظر إلى بعض الأخطاء الطبية في بعض مستشفياتنا هنا في الكويت... لنعلم بأن الخطأ وارد في كل المستشفيات من دون استثناء، باعتبار أن من يعمل في تلك المؤسسات هو إنسان لا يخضع إلى قانون الكمال... ولأن الإنسان بشر يسمح له بالخطأ أو السهو، فإن في بعض الحالات يكون الخطأ فيها غير مسموح، خاصة إذا كان مؤديا إلى كارثة تكون نهايتها قتل نفس بشرية عن غير قصد، كما هو الحال بالنسبة إلى محدثتنا.
حسب التقرير الطبي والصور بالصدى والأشعة ثلاثية الأبعاد وسلسلة من الفحوصات التي استنزفت أرقاما كبيرة لها، أثبت سقوط حمل آلاء، وبناء على تلك التقارير الطبية الصارمة خضعت محدثتنا إلى فحوصات أخرى كثيرة تعتمد في الأساس على فحوص بالأشعة، وبناء عليه كذلك اكتشف الأطباء إصابتها بورم خطير يوجب خضوعها إلى عملية فورية. ولأن التأمين رفض تغطية تكاليف العملية، ولكون أسعار مستشفى (....) باهظة جدا، فاضطرت محدثتنا إلى أن تعود إلى مصر مسقط رأسها لإجراء العملية الصعبة بسعر "معقول" على حد تعبيرها من جهة، ولكي تكون في تلك الحالة الصعبة وسط عائلتها.
وطبعا وفق التقارير الطبية الصادرة عن مستشفى (....)، حدد موعد للعملية في مصر طبعا من دون التشكيك في نتائج الفحوصات في الكويت. ولأن الظروف تخدم أحيانا ايجابيا، فقد اكتشف ما لم يكن في الحسبان، "كنت دائما اشعر بأن في الأمر خطأ، لم أكن رغم صرامة التحليل الطبي أصدق أنني مصابة بداء السرطان، كان يخالجني إحساس داخلي بأن ما بداخلي جنين، ما زال على قيد الحياة وينمو شيئا فشيئا...".
أحيانا تكتنفنا بعض الأحاسيس، التي لا ندري هل هي استباق منا للحدث أو استشعار منا له أو حد يفصل بين قمتي الصدق والتوحد مع الغيب.. كذا كان حال محدثتنا، "قلب المؤمن دليله"..هذه المقولة على ابتعادها عن المنطقية تبقى في حالات كثيرة حلا أمام عجزنا عن فهم أمور عدة تخالجنا.. ولكون آلاء مؤمنة إلى أبعد الحدود...
كان يقينها صادقا إلى أبعد الحدود... كان الجنين لا يزال على قيد الحياة فعلا حسب آخر تقرير طبي أقيم لها في مصر، كما تنص عليه الوثائق المرفقة لهذا العمل... الجنين على قيد الحياة وعمره 11 أسبوعا ويومان بالضبط، وبالتالي يؤكد أن الكتلة الموجودة في رحم محدثتنا لم تكن بالمرة ورما قاتلا، وإنما هي دليل على وجود حياة داخل أحشائها من جهة ودليل على سلامة والدته مع إيقاف التنفيذ من المرض الخبيث.
"لا شيء يضاهي وجودك في الكون بجسم سليم"، كذلك تمتمت محدثتنا بكلام تتجاذبها الفرحة لسلامة جسمها من داء السرطان وألم لكون ابنها مشوها بفعل الأشعة التي خضعت إليها، باعتبار أن التقرير كان يؤكد خلو أحشائها من الجنين. كان الجنين مصيره الإجهاض ليخلص من حياة يشوبها التشويه والعلة. من المفارقات أن يبعث الجنين الحياة والأمل لأمه وهو يفارق الحياة، يهبها الحياة ويكون برهانا على صحتها ومعاناتها رغم تشوهاته وآلام لم يشعر بها.
"هذه الدنيا عجيبة غريبة" كما تذكر لنا محدثتنا، تحب جنينها ولن تنساه كما لن تنسى من وهبها إلى الرعب ووهب جنينها إلى الموت تشوها. لم يبق لها أمام ما عاشته من ألم هي وعائلتها إلا أن تغمس عينيها بالبكاء وترفع أعينها قائلة "حسبي الله ونعم الوكيل، أنا مش مسامحة"... حرارة دموعها تلك المتناثرة أمطارا على وجنتيها الذابلتين وعيونها الناظرة إلى السماء، تدعو سخطا على الأطباء، وتصيب جسمنا بقشعريرة خفيفة وتجعلنا بدورنا نطلب من الأطباء في الكويت بصفة خاصة والعالم بصفة عامة التثبت والتثبت ثم التثبت، فحياة الإنسان ثمينة جدا وإن كان جنينا.

الخميس، 6 نوفمبر 2008

شذرات من الواقع الكويتي1


"سامح الله التكنولوجيا والتقدم العلمي"
كانت ساعة الكون تشير إلى ما بعد منتصف الليل وتتزامن مع موعد المسلمين وصلاة الصبح، وكانت ساعتها تشير إلى ما بعد ألم الضرب والشتم فتشرف على موعد لها مع حياة جديدة وتتزامن مع قطرة أفاضت الكأس عندها.
لم تعد لتحتمل، كان ذلك في يوم كانت فيه على مشارف فتح صفحة بيضاء معه وتنسى ما لا يُنسى، لكن تعمده إذلالها في تلك الليلة إلى حد السلخ وضربها إلى حد الموت كان كفيلا بأن يربك حسابات العائلة والعرف والتقاليد لديها.
من أنفها، سال الدم سيلانا محرقا مفزعا ولا تكترث له... شريدة الذهن ظلت لوقت ليس بالطويل أو القصير لم تعد تتذكر... تخمّن... وقتها فقط لملمت ما تبقى لها من رباطة جأش، في محاولة منها لإنقاذ ما تبقى من آدميتها وقرّرت ألا أحد بعد ذلك اليوم يقرّر بدلا عنها ويأخذ بزمام أمورها، قالتها "لن أعود إلى بيته، كرهته كره الشيطان للخير" أمام أيادٍ كانت تعلوها وتنزل كالصريمة على جسدها الصغير، غير مبالية بنظرات حارقة وأصوات تعلو صوت آلامها...
وكان قرارها الرجوع إلى أهلها بلا حقائب..بلا جواهر، لكن بآلام وجروح لا تحصى وتخالها لن يستوعب الزمن هضمها ونسيانها... قد تكون لا إرادة حكمتها يوم قبلت الزواج، كانت حينها تحاول إرضاء أهل همّهم الوحيد جمع شمل العائلة وتشتيت أحلامها وتعتبر من غيرها ممّن لم تسمعن كلام «العُودْ».
لكن يومها واليوم وكل أيامها المقبلة قررت وتقرر وستقرر بألا تسمح بأن تكون آلة يفرغ فيها البعض، رغم قرابتهم الشديدة منها، مخزونا ثقافيا لسنوات من الشدة والقسوة والسيطرة إلى حد التسلط والظلم...
كانت بكلماتها تلك تنتقد تصرفات أهلها وموروثا ثقافيا كاملا تتستر خلفه عائلة، همها الوحيد أن تزوج فتاة لا هم لها في الدنيا غير عيش آمن بعيدا عن مُعنّف لا وازع يردعه.
كانت كلماتها خليطا من الألم والقوة، تروينا إياها بإسهابٍ... بتداعٍ حرٍ ...بغضبٍ ...بلا مبالاةٍ ...بعزة نفسٍ ولا تروي حديثها ببكاء أنثوي رغم مرارة ما كان يسري داخلها ولا يهتم به الجميع، كانت محدثتنا مرام فتاة تحترم الكل غير أن الكل - في اعتقادها - داس عليها أمام إرضاء شكل اجتماعي تمقته إلى حد الغثيان ولا تنسى وقعه عليها.
هي اليوم في بيت عائلتها تعود خائبة من امسها ومن يومها وفرحة بحال أفضل من حالٍ، عاطلة عن العمل، لا شهادة جامعية تخفّف عنها وطأة المصيبة... وتندم، هي اليوم على أيام دراسة انقطعت عنها مبكرا... تتمنى عودتها لمقاعد هجرتها نفوراً أمس... ويصعب عليها تحقيق هذه الامنية على بساطتها من منظورنا ومستحيلة من منظورها.
قد تغري بعض الفتيات منا أهازيج الفرح وفكرة الزواج في حد ذاتها، وقد ترى بعض عائلاتنا في الزواج حماية ومستقبلا يغني عن الدراسة، لكن النماذج الاجتماعية تفند بنسبة كبيرة هذه الاعتقادات، مرام هي واحدة من بين هؤلاء الكثيرات... التحاقها بصف الدراسة من جديد يخيفها، ولا يخيفها التحاقها بصف المطلقات بقدر ما كان يخيفها إلى حد الرعب صوت مفتاحه يدخله في مكانه من الباب... فيسقط على الأرض في غير توازن بفعل الصهباء...
ويعيد هو الكرة ويعيد المفتاح عملية السقوط في بلاهة وفي سخرية من الظرف، إلى أن تسرع في استسلام المغلوب عن أمره، المداري للفضيحة... وتفتحه فيدخل متعثرا في هدوء السارق المختلس ويخيفها إلى حد الموت ولا تموت...
ويبقى ليشتمها ويشتم اهله...يلعنها ويلعن يوم زواجه بها... يضربها ويضرب الامثال عن جمال فتيات الكليبات ولا يجده عندها... ويقهقه عجعاجا كالأبله... كالشيطان... كالمارد، ولا يكترث وينام... وينسى
ثم يكرر من جديد عذابات بلا مبرر، بلا مقدمات. اليوم، هي تكره الرجال والزواج والضرب... والتسلط... والعنف... والخمرة وأمس.
أمس، كان بالنسبة إليها محط معارك دامية بينها وبين من رسخ لغة الضرب والعنف والاستخفاف صراطا سار عليه ويسير عليه شباب كثيرون في الكويت وفي غيرها من الدول... كذلك يكون العنف الزوجي ورماً لا يعرف الحدود!
اليوم، تنظر إليه بكل أمل وتفاؤل لعل الزمان كفيل بأن يمسح دمعا لم ينزل على وجنتين ورديتين فشل الألم في نزع نضارتهما. هي اليوم، تلعن التلفزة ونجمات الكليبات...
تلعن الانترنت ومواقعه الممنوعة صوريا... تكره التكنولوجيا وما فتحته من مجال أمام الكثير للعبث... تكره الشارع وما فيه من فتيات يعرضن مفاتهن أمام أعين تشرئب للاستمتاع المجاني...
تكره مخالطة أصدقاء السوء وما هم بأصدقاء... تجتاحها موجة من الالم... من الكره... من الحقد طوفانا...
بركانا ينفجر ولا ينضبُ... كررت مرات كثيرة "سامح الله التكنولوجيا والتقدم العلمي" وتسترجع الذكرى...
وتألم لنفسها... وتُرجعنا إلى حكايتها وقد صعُب عليها البدء من جديد...
كان مجيئه ليلا متأخرا وضربه المبرح كفيلين بأن يجعلا الألم لديها يتجاوز كل القرارات، لم تعِ إلى ذلك اليوم أن ما ادخرته من كرامة طيلة عقدين كاملين استطاع ابن عمها أن يجعلهما حطاما يدوس عليهما يوميا، كرهت كلمة "اصبري" و"عيب" وكل الكليشيهات المنطوية تحت مثل هذه الكلمات، كرهتُها وكرهتُ "قائلوها"، وأحببت حياتي اليوم، بلا صراخ ، بلا ألم، بلا رائحة خمرة تغشيني، وسأنسى.
تلك كانت كلماتها التي أفرغتها لـ"الصوت" بهدوء الآمن، باضطراب المظلوم، بيقين المؤمن باليوم، بارتجاف الخائف من الغد، وتمضي... كذلك كانت يومياتها لم تختصرها إلينا واختصرناها... ونختصرها اليوم في مسائل تبدو غير محددة في الزمن والمكان ولا تعتبر ظاهرة لبلد دون آخر... هي "انقطاع الفتيات عن الدراسة في سن مبكرة"، "العنف الزوجي"، "الزواج بالإكراه" "سوء استعمال التكنولوجيا بأنواعها" "الإدمان"، كلها مسائل لا تعرف الحدود الجغرافية أو الزمانية كما الألم...